الأستاذ/ إيدوم ولد عبد الجليل

إن أوروبا الآن شبيهة بالرجل المريض في مواجهة الغول الرقمي الأمريكي الذي لم يترك لها مجال مهم (في الاقتصاد، في التكنولوجيا، في المال، في السياسة..) إلا وتنصت عليه وسرب منه ما قُدر له تسريبه.
وانتصبت القارة العجوز الآن لتستعيد بعض
شبابها في محاولة للرد على هذا الشيطان العنكبوتي والذي لم يُبق ولم يذر ولم
يُغادر صغيرة ولا كبيرة.
والمبادرة هذه المرة من المستشارة الألمانية
أنجيلا ميركيل التي
دعت الأوروبيين من باريس بمناسبة لقائها يوم أمس في قصر
الأليزي برئيس الجمهورية الفرنسية السيد فرانسوا هولاند إلى إنشاء شبكة أوروبية
مؤمنة للأنترنت تشكل حصنا منيعا لبلدان القارة من كل محاولات التسريب ولترد كيد
المخابرات الأمريكية في عنقها.
شاهدنا المستشارة في أول تصريح لها بعد
وصولها باريس وهي تقول: "سنناقش مع فرنسا الطريقة التي ستمكننا من الحفاظ على
درجة عالية من حماية المعطيات الشخصية"
ويشار إلى أن ردود الفعل الأوروبية هذه ليست
وليدة الصدفة وتأتى على إثر التسريبات المذهلة التي كشف عنها موظف الاستخبارات
الأمريكية الفار سنودن والذي كان يعمل في الوكالة القومية الأمريكية للأمن NSA، وتبين على إثر ذلك أن بيانات مواطني القارة قد تم
اكتساحها على نطاق واسع بما في ذلك بيانات الساسة ورجال المال والأعمال وغيرهم،
والأدهى من ذلك أن الهاتف الجوال للمستشارة الألمانية ميركيل وكل مكالماتها
الواردة والصادرة تمت قرصنتها وتحويلها بكل سرية إلى الولايات المتحدة من قبل
وكالة التجسس الالكتروني المذكورة ( (NSA
وتأمل المستشارة الألمانية ميركل المتواجدة
في باريس وقت كتابة هذه السطور في إبرام معاهدة مع فرنسا والحصول على دعم الرئيس
الفرنسي فرانسوا هولاند بمناسبة مجلس الوزراء المشترك الفرنسي الألماني الذي يعقد
اليوم الأربعاء 19 فبراير.
"سنناقش هذا الموضوع على وجه الخصوص مع
المتعهدين الأوروبيين الذين يجب عليهم تقديم هذه الضمانة الأمنية لمواطنينا"
تقول المستشارة داعية إلى شبكة معلومات أوروبية متماسكة ومحصنة ضد العمالقة
الرقميين الأمريكيين مثل غوغل.
ومن حيث الجوهر فإن فرنسا تشاطر هذا الهدف
الحمائي لبلدان القارة رغم أن الرئيس فرانسوا هولاند أثناء زيارته الأخيرة
للولايات المتحدة الأمريكية أراد أن يعكس انطباعا على أن صفحة فضائح التجسس
الالكتروني والخلافات التي أحدثتها قد طويت مع الولايات المتحدة.
أما بالنسبة لميركل فإنها ترفض بتاتا أن تكون
مؤسسات مثل فايس بوك وغوغل تركز عملياتها في بلدان لا توفر سوى حماية ضعيفة
للبيانات الشخصية مع قيامها بنشاطات في بلدان تفرض تشريعات صارمة في هذا المجال.
وتستطرد قائلة: "سنسعى من خلال شبكة
المعلومات الأوروبية إلى توفير الحماية لمواطنينا حتى لا يتمكن أي شخص من اعتراض
رسائلنا الالكترونية أو أي معلومات أخرى لنا في الجهة الأخرى من الأطلسي، ومن
المتعين في هذه الظروف أن ننشئ الشبكة داخل القارة الأوروبية"
إن الامتعاض من موضوع التجسس الرقمي عكسته
جهات أوروبية أخرى في وقت سابق، وعبرت المفوضية الأوروبية عن انشغالها من نشاطات
البريزم Prism وهو البرنامج الأمريكي للرقابة
الالكترونية والذي تديره الوكالة القومية الأمريكية للأمن (NSA) ، ويُمكن هذا البرنامج السلطات الأمريكية من الوصول
إلى المعلومات والمعطيات الأجنبية وخاصة الأوروبية منها.
كما طالبت السيدة فيفيان ريدينغ مفوضة العدل
في المنظمة المذكورة وبشكل تلقائي في لقاءاتها مع الأمريكيين بضرورة حماية حقوق
المواطنين الأوروبيين.
وفي الواقع فإن ملف حماية المعطيات الشخصية
تمت مناقشته قبل الآن طيلة 18 شهرا وعبر 25 اجتماعا، كما أنه عرف إدخال 3000 تعديل
عليه ولا زال يسبب انقسام في الإتحاد الأوروبي إلا أن العواصم الأوروبية الآن تعبر
عن انشغال مشترك من برنامج الاعتراض الالكتروني الأمريكي.
إن الوكالة القومية الأمريكية للأمن (NSA) قامت بهذا النشاط لاعتراض وجمع المعلومات ذات
الطبيعة الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية والسياسية، وبهذا تم خرق تشريعات الدول
الأعضاء في الإتحاد الأوروبي كما تم انتهاك الحقوق الأساسية للمواطنين الأوروبيين.
وقد استفادت بريطانيا سابقا من علاقاتها
المتميزة مع أمريكا وذلك للتجسس على منافسيها الأوروبيين.
وإن هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 قد حدثت
دون أن يتمكن نظام المعلومات الأوروبي أشلون Echelon )الذي هو شبكة شاملة لرقابة الاتصالات) من استباقها، وعلى إثر ذلك فإن
الأوروبيين قد قدموا معطيات إلى أمريكا تارة بشكل طوعي وغالبا بشكل اضطراري وذلك
تحت مسمي مكافحة الإرهاب إلا أنهم اكتشفوا في العام 2006 أن أمريكا تمتلك بشكل سري
ومنذ خمس سنوات كل معلومات شركة سويف Swift المتواجدة في بلجيكا والتي تُؤمن التدفقات
المالية بين بنوك العالم أجمع.
وفي هذا الجو المتوتر فإن المفاوضات العسيرة
السابقة في هذا المجال بين الجانبين
الأوروبي والأمريكي قد قادت إلى التوقيع على اتفاق بين الطرفين في 2010 حصل بموجبه
الأوروبيون على إمكانية ضئيلة بالنسبة لهم تتمثل في تقييم الطلبات الأمريكية في
مجال المعلومات وأصبح هنالك ممثل لمجموعة السبع والعشرين في العاصمة الفيدرالية
الأمريكية يمارس دور رقابة على الإجراءات التي يتم تقييمها بشكل دوري كل ثلاث
أشهر.
يضاف إلى هذا أن موضوع المعطيات الشخصية
للمسافرين عبر الطيران لم يكن أقل تعقيدا وقد عرف تسع سنوات من المفاوضات قبل
التوصل إلى اتفاق بشأنه في شهر إبريل 2012 وقد انتهى ذلك بإعطاء المجموعة
الأوروبية لأمريكا تسعة عشر قاعدة معلومات حول كل المسافرين على متن الرحلات
الجوية المتجهة إلى أمريكا أو التي تعبر
أجواءها، ويتم تخزين هذه المعطيات على قاعدة معلومات نشطة لمدة خمس سنوات وعلى
قاعدة معلومات نائمة لمدة عشر سنوات.
إن الأوروبيين لم يستطيعوا أن يحلوا المعضلة
الرئيسة وهي أن ثلاثة من أصل أربعة من الهيئات العالمية العملاقة المختصة بتخزين
البيانات حول رحلات الطيران على المستوى العالمي متواجدة على التراب الأمريكي
وتخضع للتشريعات الأمريكية، ولذلك فإنه في حالة نزاع فإن القوانين الأوروبية لا
تجد مجالا للتطبيق كما هو الشأن في قضية البريزم والأوروبيون يشعرون بتأخرهم في
هذا المجال.
وفي الوقت الحاضر تبقى المفاوضات مقتصرة على
طلب تمكين المواطنين الأوروبيين قضائيا من تصحيح البيانات الخاطئة المتعلقة بهم
والمسجلة من قبل شركات خصوصية أمريكية، مع العلم أن المواطنين الأمريكيين يتمتعون
بهذا الحق في دول الإتحاد الأوروبي.
إن هذا الوضع يطرح إشكالا في بلدان تعطي
أهمية كبرى للحريات الفردية وتعتبر المانيا مستهدف رئيس بنشاطات التجسس الأمريكي
وهذا ما يعني حسب مسؤول أوروبي أن التجسس الأمريكي له أيضا أغراض صناعية وتكنولوجية.
فهل سينجح الأوروبيين في وضع حد لهذه الفضائح التنصتية
على قارتهم ومن صد الآذان الطويلة الممدودة نحوهم من قبل الوكالة القومية
الأمريكية للأمن (NSA)؟ سيخبرنا المستقبل
بذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق